مقدمـة: عرفنا مما مضى من آيات الله المشاهدة لنا في الآفاق والأنفس أن الكون ملئ بالأدلة التي تعرفنا بصفات الأفعال الخاصة بالله سبحانه التي نشاهد آثارها في كل شئ حولنا، والتي تدل على أنه سبحانه العليم الحكيم اللطيف الخبير الحافظ الهادي القدير القوي المحيط الرزاق البديع مجيب الدعاء الفعال لم يريد.
وأن هذه الصفات لا يمكن أن تكون صفات لغيره جل وعلا، فيشهد المسلم كما يشهد الكون بصفات الربوبية العظيمة التي تقتضي الشهادة بصفات الإلوهية الحقة وصفات الوحدانية الحقة.
والمسلم لا يقف كالفلاسفة عند الشهادة بالربوبية فقط بل يكملها بالإقرار بما يستحقه الخالق من حق على عباده يتمثل في إخلاص العبودية له، وتوحيده في ربوبيته، وألوهيته، وأسمائه وصفاته، ولذلك فهو يرى أن تلك الأدلة التي يمتلئ بها الوجود من حوله هي أدلة لشهادة الحق التي ينطق بها المسلم، متضمنة حق ربه عليه، فيقول شهادة الحق "أشهد أن لا إله إلا الله"، ويعلم أن الله جلا وعلا لم يتركه بدون هدى بل أرسل له رسلًا ختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فيقبل العاقل على رسالة ربه إليه والتي ختمت وكملت وأكملت بخاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم فيقف على أدلة صدقه صلى الله عليه وسلم، ويتلقى منه الدين، ويشهد له بالرسالة وتكتمل شهادة الحق التي جعلها الله بوابة الدخول إلى الإسلام وعصمة لدم قائلها وماله في الدنيا، ونجاة له من الخلود في النار في الآخرة:أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدرسول الله.و شهادة أن لا إله إلا الله:إقرار أنه لا معبود بحق إلا الله.فما معنى هذه الشهادة، وما فضلها، وما مقتضياتها، وما نواقضها؟
هذا ما سنعرض له فيما يأتي:
معنى لا إله إلا الله:
لا إله إلا الله كلمة التوحيد، مكونة من جزئين، يتضمن أحدهما نفيًا والآخر إثباتًا.
فقولك: (لا إله): تنفي به ألوهية ما سوى الله تعالى.
وقولك: (إلا الله): تثبت به الألوهية لله وحده لا شريك له سبحانه وتعالى.
أما الإله في اللغة: فهو كل ما أتخذ معبودًا.
وأما لفظ الجلالة (الله): فهو علم على الرب المعبود بحق سبحانه وتعالى. وقيل إنه مشتق وأصله الإله.
معنى الإله في القرآن:
جاء استعمال كلمة (الإله) في القرآن بمعنيين اثنين:
أحدهما: المعبود الذي يستحق في حقيقة الأمر أن يعبد، وهو الله وحده لا شريك له.
ثانيهما: المعبود الذي يعبده الناس في الواقع، حقا كان ذلك المعبود أم باطلا لا عبرة بذلك.
فالإله الحق هو المتصف
أولًا: بصفات الربوبية:
* من خلقٍ ورزقٍ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}.. (فاطر:3).
* وإنزال للماء من السماء، وإنبات للحدائق الجميلة الرائعة، وإقرار للأرض، وشق لأنهارها، وإلقاءٍ لرواسيها، وحجز بين البحرين منها، وإجابةٍ لدعاء المضطر، وهداية للسائرين في ظلمات البر والبحر، وإرسال للرياح المبشرة، وبدء للخلق وإعادته.
قال الله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)}.. (سورة النمل).
* وإحياء وإماتة: قال تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ…}.. (الأعراف: 158).
* وتقليب لليل والنهار: قال سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72)}... (سورة القصص).
* وملك: قال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}.. (الزمر:6).
* وتفرد بخلق السمع والأبصار والقلوب: قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ}.. (الأنعام:46).
ثانيًا: وهو المتصف بصفات الألوهية:
* المستحق للعبادة: قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}.. (الأنبياء: 25).
وقال سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}.. (الأنعام: 102).
* الذي يُتوكل عليه ويتاب إليه: قال تعالى: {قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}... (الرعد: 30).
* المحمود المستحق للحمد في الأولى والآخرة: قال سبحانه: {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.. (القصص: 7)
* المتوحد في الألوهية: قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}... (المائدة: 73). وقال تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}.. (النحل: 51).
ثالثا: وهو الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى: قال تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}.. (طه:8).
* الذي وسع كل شئ علمًا قال تعالى: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا}.. (طه:98).
* وهو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور العزيز الحكيم. قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)}.. (سورة الحشر).
* وهو الحي القيوم، مالك السموات والأرض وحافظهما، العالم بما بين أيدي الناس وما خلفهم، الذي وسع كرسيه السموات والأرض: قال تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}.. (البقرة: 255).
* وهو المنزه عن الولد والصاحبة: قال تعالى: {… إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا}.. (النساء: 171). وقال سبحانه: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.. (الأنعام: 101).
* وهو رب العرش العظيم: قال تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}.. (التوبة:129).
* وهو القهار العزيز الغفار: قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ(66)} (سورة ص).
* وهو غافر الذنب وقابل التوب، شديد العقاب، ذو الطول وإليه مرجع الخلائق: قال تعالى: {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ(3)}.. (سورة غافر).
يظهر لنا مما سبق أن الله سبحانه هو الإله الحق، وهو رب كل شئ وخالقه وهو المتصف بصفات الكمال، المستحق للعبادة وحده دون سواه. وهذا هو حقيقة لا إله إلا الله، وهي حقيقة دين الإسلام وأساس دعوة جميع الأنبياء، وما خلق الله الخلق إلا لتحقيق العبودية الخالصة له سبحانه. قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}.. (الذاريات: 56).
وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}.. (الأنبياء:25).
وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}... (النحل:36).
وأمر الله سبحانه نبيه محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم فقال له {… قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ}.. (الرعد:36) ونقل ابن جريرعن ابن عباس قوله: الله هو الذي يألهه كل شئ ويعبده كل خلق. ونقل عن الضحاك عن ابن عباس: الله ذو الإلوهية والعبودية على خلقه أجمعين.
وقال أبو العباس ابن تيمية: الإله هو المعبود المطاع، فإن الإله هو المألوه، والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد، وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب، المخضوع له غاية الخضوع، فإن الإله هو المحبوب المعبود الذي تألهه القلوب بحبها وتخضع له وتذل له، وتخافه وترجوه، وتنيب إليه في شدائدها وتدعوه في مهماتها، وتتوكل عليه في مصالحها، وتلجأ إليه وتطمئن بذكره وتسكن إلى حبه، وليس ذلك إلا لله وحده، ولذلك كانت "لا إله إلا الله" أصدق الكلام، وكان أهلها أهل الله وحزبه والمنكرون لها أهل غضبه ونقمته، فإذا صحت صح بها كل مسألة وحال وذوق، وإذا لم يصححها العبد فالفساد لازم له في علومه وأعماله.
فضل لا إلــه إلا الله:
دلت نصوص الكتاب والسنة على فضل هذه الشهادة العظيمة، ومكانتها في الدنيا والآخرة.
1- شهادة الله بها: وكفاها فضلًا أن شهد الله سبحانه بها وملائكته وأولوا العلم. قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}... (آل عمران: 18).
2- باب الدخول إلى الإسلام: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي نَفْسَهُ وَمَالَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ).
3- عاصمة لدم قائلها وماله في الدنيا: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ).
4- الكلمة الطيبة: عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن لا إله إلا الله هي الكلمة الطيبة المذكورة في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ(24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(25)}.. (سورة إبراهيم).
وهذه الكلمة إذا استقرت في القلب فإن صاحبها تتحقق فيه خشية الله وتقواه، فيحفزه ذلك على فعل الصالحات واجتناب المحرمات، ولذلك فهي:
5- كلمة التقوى: فقد روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال: إن لا إله إلا الله هي كلمة التقوى المذكورة في قوله تعالى: {… فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}.. (الفتح: 26). قال: كلمة التقوى شهادة أن لا إله إلا الله وهي رأس كل تقوى.
6- مجددة الإيمان: فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: جَدِّدُوا إِيمَانَكُمْ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ نُجَدِّدُ إِيمَانَنَا؟ قَالَ أَكْثِرُوا مِنْ قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
7- الخاتمة الحسنة: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ … الحديث). وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضًا: (مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ).
8- الموجبة دخول الجنة: روى بعض الصحابة أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك فأصابتهم مجاعة فَدَعَا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بِنِطَعٍ فَبَسَطَهُ، ثُمَّ دَعَا بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِكَفِّ ذُرَةٍ، قَالَ: وَيَجِيءُ الْآخَرُ بِكَفِّ تَمْرٍ، وَيَجِيءُ الْآخَرُ بِكَسْرَةٍ، حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَى النِّطَعِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ يَسِيرٌ.
قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ قَالَ خُذُوا فِي أَوْعِيَتِكُمْ.
قَالَ: فَأَخَذُوا فِي أَوْعِيَتِهِمْ حَتَّى مَا تَرَكُوا فِي الْعَسْكَرِ وِعَاءً إِلَّا ملأوه.
قَالَ: فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، وَفَضَلَتْ فَضْلَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ لَا يَلْقَى اللَّهَ بِهِمَا عَبْدٌ غَيْرَ شَاكٍّ فَيُحْجَبَ عَنِ الْجَنَّةِ) وروى أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ.
قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ! قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَق.
قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ! قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ ثَلَاثًا.
ثُمَّ قَالَ فِي الرَّابِعَةِ: عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ.
وروى عبادة بن الصامت عند موته قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من قال: أشَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَأن الْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ عَمَلِ).
وهذه الأحاديث تفيد أن قائلها لابد أن يدخل الجنة بفضلها، وإن كان قد دخل النار بسبب ذنوبه ومعاصيه فبفضلها يخرج من النار كما في الحديث الصحيح (إن الله تبارك وتعالى يَقُولُ وَعِزَّتِي وَجَلَالِي وَكِبْرِيَائِي وَعَظَمَتِي لَأُخْرِجَنَّ مِنْهَا مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) أي من النار.
أهل هذا الفضل:
أهل هذا الفضل على صنفين:
أحدهما: الذين يقولونها ويأتون بمقتضياتها وهؤلاء يدخلهم الله الجنة وينجيهم من النار قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}.. (آل عمران:142).
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}...(فصلت:30).
بينت الآيات أنه لا بد من القول والاستقامة بالعمل الصالح لدخول الجنة. وكذلك الأحاديث النبوية رتبت دخول الجنة على الأعمال الصالحة إضافة إلى الشهادة كما في الصحيحين (أَنَّ رَجُلًا قَالَ: لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الجنَّةَ قَالَ: مَا لَهُ مَا لَهُ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَبٌ مَا لَهُ تَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَصِلُ الرَّحِمَ).
وفي المسند عن بشير بن الخصاصية قال أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأُبايعَهُ فاشترطَ علي شهادةَ أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسولُ الله وأن أقيمَ الصلاة وأن أوتي الزكاةَ وأحُجَ حجةَ الإسلامِ، وأن أصومَ رمضانَ، وأنْ أجاهدَ في سبيلِ اللهِ. فقلتُ: يا رسول الله أما اثنتين فو الله ما أُطيقهما: الجهادُ والصدقةُ. فقبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده ثم حرّكها، وقال فلا جهادَ ولا صدقةَ، فَبِمَ تدخلُ الجنةَ إذًا؟ قلت: أُبايُعُكَ، فبايعتُه عليهِن كلهِن.ففي الحديث أن الجهاد والصدقة شرط في دخول الجنة مع حصول التوحيد والصلاة والصيام والحج.
الصنف الثاني: هم الذين يقرون بها، ويرتكبون المعاصي، فهؤلاء يغفر الله لمن يشاء منهم كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}... (النساء:48)، ويخرج الله بفضل الشهادة والإقرار بها من دخل النار منهم كما جاء في الحديث (وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأُخرِجَنّ منها من قال:لا إله إلا الله).
9- المُحّرِمَة على النار:
فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ:
ما من عبدٍ يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صدقًا من قلبه إلا حرّمه الله على النار، فقال معاذ: يا رسولَ اللهِ ألا أخبرُ بها الناسَ فيستبشروا؟ قال: إذًا يتكلوا! فأخبر بها معاذ عند موته تأثمًا. وقال عِتبان بن مالك الأنصاري: غدا عليّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: لن يوافيَ عبد يوم القيامةِ يقول: لا إله إلا الله يبتغي به وجه الله إلا حرم الله عليه النار. وعن سهيل بن البيضاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ، وَأَوْجَبَ لَهُ الْجَنَّةَ).
رفع التباس:
فهم بعض الناس من ظاهر النصوص السابقة في فضل لا إله إلا الله أن مجرد التلفظ بها كاف لدخول الجنة والتحريم على النار دون عمل صالح، وهذا لبس كشفه أهل العلم رحمهم الله، ومما قالوا في ذلك:
1) إنه ينبغي أن لا تفهم الأحاديث التي جاءت مطلقة في دخول الجنة أو تحريم النار على من قال لا إله إلا الله إلا في ضوء الأحاديث التي جاءت مقيدة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: من قال لا إله إلا الله مخلصًا من قلبه، أو صدقًا من قلبه، أو يبتغي بها وجه الله، كما قرر ذلك أهل العلم.
ومعنى ذلك أن من قال: "لا إله إلا الله" مخلصًا من قلبه غير شاك فيها فإنه يكون مؤديًا لحقها من الأعمال الصالحة التي هي سبب دخول الجنة والنجاة من النار، وأما من قالها بدون إخلاص أو صدق فلن تأتي بثمارها من الأقوال والأعمال الصالحة التي تكون سببًا لنجاته من النار.
2) أن ما جاء في النصوص من كون من قال: "لا إله إلا الله" يحرم على النار: أنه يحمل على الخلود فيها، أي يحرم عليه أن يخلد فيها أو يحرم عليه الدرك الذي يكون فيه أهل النار الخالدين فيها، وقد يكون في درك أعلى في النار، لأنه قد جاء في النصوص الصحيحة أن بعض عصاة الموحدين يدخلون النار بسبب معاصٍ لهم ثم يخرجون منها كما في الصحيحين:إن الله تعالى يقول (وَعِزَّتِي وَجَلَالِي وَكِبْرِيَائِي وَعَظَمَتِي لَأُخْرِجَنَّ مِنْهَا مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ).
3) أن هذا الفضل إنما يكون لمن قام بحقها ومقتضياتها من الأعمال الصالحة كما ذكرنا ذلك في كون لا إله إلا الله موجبة لدخول الجنة. وقد سأل رجل سفيان بن عيينه فقال له: كيف نصنع بقوم عندنا يزعمون أن الإيمان قول بلا عمل؟! قال سفيان: كان القول قولهم قبل أن تقرر أحكام الإيمان وحدوده.
إن الله بعث نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة أن يقولوا: لا إله إلا الله، وأنه رسول الله، فلما قالوها عصموا بها دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل، فلما علم الله عز وجل صدق ذلك من قلوبهم، أمره أن يأمرهم بالصلاة، فأمرهم ففعلوا، فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول، فلما علم الله جل وعلا صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأمرهم بالهجرة إلى المدينة فأمرهم ففعلوا، فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم.
فلما علم الله تبارك وتعالى صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأمرهم بالرجوع إلى مكة ليقاتلوا آباءهم وأبناءهم حتى يقولوا كقولهم، ويصلوا صلاتهم ويهاجروا هجرتهم، فأمرهم ففعلوا، فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم ولا هجرتهم. فلما علم الله عز وجل صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأمرهم بالطواف بالبيت تعبدًا، وأن يحلقوا رؤوسهم تذللًا ففعلوا، فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول، ولا صلاتهم، ولا هجرتهم، ولا قتلهم آباءهم.
فلما علم الله عز وجل صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأخذ من أموالهم صدقة يطهرهم بها، فأمرهم ففعلوا حتى أتوا بها قليلها وكثيرها، والله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم، ولا هجرتهم، ولا قتلهم آباءهم ولا طوافهم. فلما علم الله تبارك وتعالى الصدق من قلوبهم فيما تتابع عليهم من شرائع الإيمان وحدوده قال عز وجل: قل لهم: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}.. (المائدة:3).
المصدر: كتاب (علم الإيمان) للشيخ عبد المجيد الزنداني